فصل: تفسير الآيات (28- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (26- 27):

{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}
قوله: {وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم مّنْ أَهْلِ الكتاب} أي عاضدوهم وعاونوهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو قريظة؛ فإنهم عاونوا الأحزاب ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاروا يداً واحدة مع الأحزاب. والصياصي جمع صيصية: وهي الحصون، وكل شيء يتحصن به يقال له: صيصية، ومنه صيصية الديك، وهي الشوكة التي في رجله، وصياصي البقر قرونها؛ لأنها تمتنع بها، ويقال: لشوكة الحائك التي يسوّي بها السداة واللحمة: صيصية، ومنه قول دريد بن الصمة:
فجئت إليه والرماح تنوشه ** كوقع الصياصي في النسيج الممدد

ومن إطلاقها على الحصون قول الشاعر:
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت ** نساء تميم يبتدرن الصياصيا

{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} أي الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي وهي معنى قوله: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} فالفريق الأوّل: هم الرجال، والفريق الثاني: هم النساء والذرية، وهذه الجملة مبيّنة، ومقرّرة لقذف الرعب في قلوبهم. قرأ الجمهور: {تقتلون} بالفوقية على الخطاب، وكذلك قرؤوا {تأسرون}، وقرأ ابن ذكوان في رواية عنه بالتحتية فيهما، وقرأ اليماني بالفوقية في الأوّل، والتحتية في الثاني، وقرأ أبو حيوة: {تأسرون} بضم السين، وقد حكى الفراء كسر السين وضمها فهما لغتان، ووجه تقديم مفعول الفعل الأوّل وتأخير مفعول الفعل الثاني أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة، وكان الوارد عليهم أشدّ الأمرين وهو القتل، كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام.
وقد اختلف في عدد المقتولين والمأسورين، فقيل: كان المقتولون من ستمائة إلى سبعمائة. وقيل: ستمائة. وقيل: سبعمائة. وقيل: ثمانمائة. وقيل: تسعمائة. وكان المأسورون سبعمائة، وقيل: سبعمائة وخمسين. وقيل: تسعمائة.
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم وَأَمولَهُمْ} المراد بالأرض: العقار والنخيل، وبالديار: المنازل والحصون، وبالأموال الحليّ والأثاث والمواشي والسلاح والدراهم والدنانير {وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا} أي وأورثكم أرضاً لم تطؤوها، وجملة: {تطئوها} صفة ل {أرضاً}. قرأ الجمهور: {لم تطئوها} بهمزة مضمومة ثم واو ساكنة، وقرأ زيد بن علي: {تطوها} بفتح الطاء وواو ساكنة. واختلف المفسرون في تعيين هذه الأرض المذكورة، فقال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: إنها خيبر، ولم يكونوا إذ ذاك قد نالوها، فوعدهم الله بها.
وقال قتادة: كنا نتحدّث أنها مكة.
وقال الحسن: فارس والروم.
وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. {وَكَانَ الله على كُلّ شَيْء قَدِيراً} أي هو سبحانه قدير على كل ما أراده من خير وشرّ ونعمة ونقمة، وعلى إنجاز ما وعد به من الفتح للمسلمين.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {مِن صَيَاصِيهِمْ} قال: حصونهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن مردويه عن عائشة قالت: خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فإذا أنا بسعد بن معاذ ورماه رجل من قريش يقال له: ابن الفرقدة بسهم، فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعداً، فقال: اللهم لا تمتني حتى تقرّ عيني من قريظة، فبعث الله الريح على المشركين {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} ولحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بقبة من أدم، فضربت على سعد في المسجد، قالت: فجاء جبريل، وإن على ثناياه لوقع الغبار، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم، فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لآمته، وأذّن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما اشتدّ حصرهم واشتدّ البلاء عليهم، قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله، قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد ابن معاذ، فأتي به على حمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احكم فيهم»، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال: «لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله».

.تفسير الآيات (28- 34):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)}
قوله: {ياأيها النبي قُل لأزواجك} قيل: هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدّمها من المنع من إيذاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان قد تأذّى ببعض الزوجات. قال الواحدي: قال المفسرون: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئاً من عرض الدنيا، وطلبن منه الزيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهنّ على بعض، فآلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهنّ شهراً، وأنزل الله آية التخيير هذه، وكنّ يومئذ تسعاً: عائشة وحفصة وأمّ سلمة وأمّ حبيبة وسودة هؤلاء من نساء قريش، وصفية الخيبرية وميمونة الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. ومعنى {الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} سعتها ونضارتها ورفاهيتها والتنعم فيها {فَتَعَالَيْنَ} أي أقبلن إليّ {أُمَتّعْكُنَّ} بالجزم جواباً للأمر، أي أعطكنّ المتعة، وكذا {أسرّحكنّ} بالجزم، أي أطلقكنّ وبالجزم في الفعلين قرأ الجمهور، وقرأ حميد الخراز بالرفع في الفعلين على الاستئناف، والمراد بالسراح الجميل هو الواقع من غير ضرار على مقتضى السنة. وقيل: إن جزم الفعلين، على أنهما جواب الشرط، وعلى هذا يكون قوله: {فتعالين} اعتراضاً بين الشرط والجزاء {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة} أي الجنة ونعيمها {فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ} أي اللاتي عملن عملاً صالحاً {أَجْراً عَظِيماً} لا يمكن وصفه، ولا يقادر قدره وذلك بسبب إحسانهن، وبمقابلة صالح عملهنّ.
وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبيّ صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين: القول الأوّل: أنه خيرهنّ بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق، فاخترن البقاء، وبهذا قالت عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة. والقول الثاني: أنه إنما خيرهنّ بين الدنيا فيفارقهنّ، وبين الآخرة فيمسكهن ولم يخيرهنّ في الطلاق، وبهذا قال عليّ والحسن وقتادة، والراجح الأوّل.
واختلفوا أيضاً في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يحسب مجرّد ذلك التخيير على الزوج طلقة أم لا؟ فذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا يكون التخيير مع اختيار المرأة لزوجها طلاقاً لا واحدة ولا أكثر.
وقال علي وزيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وبه قال الحسن والليث. وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك. والراجح الأوّل لحديث عائشة الثابت في الصحيحين قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدّه طلاقاً. ولا وجه لجعل مجرّد التخيير طلاقاً، ودعوى أنه كناية من كنايات الطلاق مدفوعة بأن المخير لم يرد الفرقة لمجرّد التخيير، بل أراد تفويض المرأة وجعل أمرها بيدها، فإن اختارت البقاء بقيت على ما كانت عليه من الزوجية، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة.
واختلفوا في اختيارها لنفسها هل يكون ذلك طلقة رجعية، أو بائنة؟ فقال بالأوّل عمر وابن مسعود وابن عباس وابن أبي ليلى والثوري والشافعي.
وقال بالثاني عليّ وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك. والراجح الأوّل، لأنه يبعد كل البعد أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خلاف ما أمره الله به، وقد أمره بقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها فثلاث طلقات، وليس لهذا القول وجه.
وقد روي عن عليّ: أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء، وإذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.
ثم لما اختار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله أنزل فيهنّ هذه الآيات تكرمة لهنّ وتعظيماً لحقهنّ فقال: {يانساء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ} أي ظاهرة القبح واضحة الفحش، وقد عصمهنّ الله عن ذلك وبرأهنّ وطهرهنّ {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} أي يعذبهنّ مثلي عذاب غيرهنّ من النساء إذا أتين بمثل تلك الفاحشة؛ وذلك لشرفهنّ وعلوّ درجتهنّ وارتفاع منزلتهنّ.
وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع أنّ تضاعف الشرف وارتفاع الدرجات يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات. وقر أبو عمرو: {يضعف} على البناء للمفعول، وفرق هو وأبو عبيد بين يضاعف ويضعف، فقالا: يكون يضاعف ثلاثة عذابات ويضعف عذابين. قال النحاس: هذه التفرقة التي جاء بها لا يعرفها أحد من أهل اللغة، والمعنى في يضاعف ويضعف واحد، أي يجعل ضعفين، وهكذا ضعف ما قالاه ابن جرير {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} لا يتعاظمه ولا يصعب عليه.
{وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحا} قرأ الجمهور: {يقنت} بالتحتية، وكذا قرؤوا: {يأت منكنّ} حملاً على لفظ من في الموضعين، وقرأ الجحدري ويعقوب وابن عامر في رواية وأبو جعفر بالفوقية حملاً على المعنى، ومعنى {من يقنت}: من يطع، وكذا اختلف القراء في {مبينة}، فمنهم من قرأها بالكسر، ومنهم من قرأها بفتح الياء كما تقدّم في النساء. وقرأ ابن كثير وابن عامر: {نضعف} بالنون ونصب العذاب، وقرئ: {نضاعف} بكسر العين على البناء للفاعل {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} قرأ حمزة والكسائي بالتحتية، وكذا قرأ: {يعمل} بالتحتية، وقرأ الباقون: {تعمل} بالفوقية، {ونؤت} بالنون. ومعنى إتيانهنّ الأجر مرّتين: أنه يكون لهنّ من الأجر على الطاعة مثلا ما يستحقه غيرهنّ من النساء إذا فعلن تلك الطاعة. وفي هذا دليل قويّ على أن معنى {يضاعف لها العذاب ضعفين}: أنه يكون العذاب مرّتين لا ثلاثاً؛ لأن المراد إظهار شرفهنّ ومزيتهنّ في الطاعة والمعصية بكون حسنتهنّ كحسنتين، وسيئتهنّ كسيئتين، ولو كانت سيئتهنّ كثلاث سيئات لم يناسب ذلك كون حسنتهنّ كحسنتين، فإن الله أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهنّ مضاعفة تزيد على مضاعفة أجرهن {وَأَعْتَدْنَا لَهَا} زيادة على الأجر مرّتين {رِزْقاً كَرِيماً}.
قال المفسرون: الرزق الكريم هو: نعيم الجنة، حكى ذلك عنهم النحاس.
ثم أظهر سبحانه فضيلتهنّ على سائر النساء تصريحاً، فقال: {يانساء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء} قال الزجاج: لم يقل: كواحدة من النساء؛ لأن أحد نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة.
وقد يقال: على ما ليس بآدميّ كما يقال: ليس فيها أحد لا شاة، ولا بعير. والمعنى: لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف. ثم قيد هذا الشرف العظيم بقيد فقال: {إِنِ اتقيتن} فبين سبحانه أن هذه الفضيلة لهنّ إنما تكون بملازمتهنّ للتقوى، لا لمجرّد اتصالهنّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد وقعت منهنّ ولله الحمد التقوى البينة، والإيمان الخالص، والمشي على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: إن اتقيتنّ فلستنّ كأحد من النساء. وقيل: إن جوابه: {فَلاَ تَخْضَعْنَ} والأوّل أولى. ومعنى {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول}: لا تلنّ القول عند مخاطبة الناس كما تفعله المريبات من النساء، فإنه يتسبب عن ذلك مفسدة عظيمة، وهي قوله: {فَيَطْمَعَ الذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي فجور وشك ونفاق، وانتصاب {يطمع} لكونه جواب النهي. كذا قرأ الجمهور.
وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ: {فيطمع} بفتح الياء وكسر الميم. قال النحاس: أحسب هذا غلطاً، ورويت هذه القراءة عن أبي السمال وعيسى بن عمر وابن محيصن، وروي عنهم: أنهم قرؤوا بالجزم عطفاً على محل فعل النهي {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} عند الناس بعيداً من الريبة على سنن الشرع، لا ينكر منه سامعه شيئاً، ولا يطمع فيهنّ أهل الفسق والفجور بسببه.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} قرأ الجمهور: {وقرن} بكسر القاف من وقر يقر وقاراً، أي سكن، والأمر منه قر بكسر القاف، وللنساء قرن: مثل عدن وزنّ.
وقال المبرد: هو من القرار، لا من الوقار، تقول: قررت بالمكان بفتح الراء، والأصل: اقررن بكسر الراء فحذفت الراء الأولى تخفيفاً كما قالوا في ظللت: ظلت، ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل بتحريك القاف.
وقال أبو علي الفارسي: أبدلت الراء الأولى ياء كراهة التضعيف كما أبدلت في قيراط ودينار، وصار للياء حركة الحرف الذي أبدلت منه، والتقدير: اقيرن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحريك الياء بالكسر فتسقط الياء لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحريك ما بعدها فيصير قرن. وقرأ نافع وعاصم بفتح القاف. وأصله: قررت بالمكان: إذا أقمت فيه بكسر الراء، أقرّ بفتح القاف كحمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز، ذكر ذلك أبو عبيد عن الكسائي، وذكرها الزجاج، وغيره. قال الفراء: هو كما تقول هل حست صاحبك، أي هل أحسسته؟ قال أبو عبيد: كان أشياخنا من أهل العربية ينكرون القراءة بالفتح للقاف، وذلك لأن قررت بالمكان أقرّ لا يجوّزه كثير من أهل العربية.
والصحيح قررت أقرّ بالكسر، ومعناه: الأمر لهنّ بالتوقر والسكون في بيوتهنّ، وأن لا يخرجن، وهذا يخالف ما ذكرناه هنا عنه عن الكسائي وهو من أجلّ مشايخه.
وقد وافقه على الإنكار لهذه القراءة أبو حاتم فقال: إن {قرن} بفتح القاف لا مذهب له في كلام العرب. قال النحاس: قد خولف أبو حاتم في قوله إنه لا مذهب له في كلام العرب، بل فيه مذهبان: أحدهما: حكاه الكسائي، والآخر: عن عليّ بن سليمان. فأما المذهب الذي حكاه الكسائي فهو ما قدّمناه من رواية أبي عبيد عنه، وأما المذهب الذي حكاه عليّ بن سليمان، فقال: إنه من قررت به عيناً أقرّ. والمعنى: واقررن به عيناً في بيوتكنّ. قال النحاس: وهو وجه حسن. وأقول: ليس بحسن ولا هو معنى الآية، فإن المراد بها أمرهنّ بالسكون والاستقرار في بيوتهنّ، وليس من قرّة العين. وقرأ ابن أبي عبلة: {واقررن} بألف وصل وراءين، الأولى مكسورة على الأصل.
{وَلاَ تَبَرَّجْنَّ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} التبرّج: أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره مما يستدعي به شهوة الرجل.
وقد تقدّم معنى التبرّج في سورة النور. قال المبرد: هو مأخوذ من السعة، يقال: في أسنانه برج: إذا كانت متفرّقة. وقيل: التبرّج هو: التبختر في المشي، وهذا ضعيف جدّاً.
وقد اختلف في المراد بالجاهلية الأولى، فقيل: ما بين آدم ونوح. وقيل: ما بين نوح وإدريس. وقيل: ما بين نوح وإبراهيم. وقيل: ما بين موسى وعيسى، وقيل: ما بين عيسى ومحمد.
وقال المبرد: الجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء. قال: وكان نساء الجاهلية تظهر ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها، فينفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. قال ابن عطية: والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهنّ فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، لأنهم كانوا لا غيرة عندهم، وليس المعنى أنّ ثم جاهلية أخرى. كذا قال، وهو قول حسن. ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى: ولا تبرّجن أيها المسلمات بعد إسلامكنّ تبرّجاً مثل تبرّج أهل الجاهلية التي كنتنّ عليها، وكان عليها من قبلكنّ أي لا تحدثن بأفعالكنّ وأقوالكنّ جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل.
{وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَه} خصّ الصلاة والزكاة لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية.
ثم عمم فأمرهنّ بالطاعة لله ولرسوله في كل ما هو شرع {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} أي إنما أوصاكنّ الله بما أوصاكنّ من التقوى، وأن لا تخضعن بالقول، ومن قول المعروف، والسكون في البيوت وعدم التبرّج، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والطاعة ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، والمراد بالرجس: الإثم والذنب المدنسان للأعراض الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه، فيدخل تحت ذلك كل ما ليس فيه لله رضا، وانتصاب {أهل البيت} على المدح كما قال الزجاج، قال: وإن شئت على البدل. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال النحاس: إن خفض فعلى أنه بدل من الكاف والميم، واعترضه المبرد بأنه لا يجوز البدل من المخاطب، ويجوز أن يكون نصبه على النداء {وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} أي يطهركم من الأرجاس والأدران تطهيراً كاملاً. وفي استعارة الرجس للمعصية والترشيح لها بالتطهير تنفير عنها بليغ، وزجر لفاعلها شديد.
وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية، فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير: إن أهل البيت المذكورين في الآية هنّ زوجات النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة. قالوا: والمراد بالبيت بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومساكن زوجاته لقوله: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ}. وأيضاً السياق في الزوجات من قوله: {ياأيها النبي قُل لأزواجك} إلى قوله: {واذكرن مَا يتلى في بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله والحكمة إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}.
وقال أبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة، وروي عن الكلبي: أن أهل البيت المذكورين في الآية هم: عليّ وفاطمة والحسن والحسين خاصة، ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث، وهو قوله: {عنكم} و{ليطهركم} ولو كان للنساء خاصة لقال عنكنّ ويطهركنّ. وأجاب الأولون عن هذا أن التذكير باعتبار لفظ الأهل كما قال سبحانه: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} [هود: 73] وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد زوجته أو زوجاته، فيقول: هم بخير.
ولنذكر هاهنا ما تمسك به كلّ فريق. أما الأوّلون، فتمسكوا بالسياق، فإنه في الزوجات كما ذكرنا، وبما أخرجه ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} قال: نزلت في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.
وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج نحوه ابن مردويه من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة نحوه.
وأخرج ابن سعد عن عروة نحوه.
وأما ما تمسك به الآخرون، فأخرج الترمذي وصححه، وابن جرير وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أمّ سلمة قالت: في بيتي نزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} وفي البيت فاطمة وعليّ والحسن والحسين، فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أمّ سلمة أيضاً؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في بيتها على منامة له عليه كساء خيبريّ، فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعي زوجك وابنيك حسناً وحسيناً»، فدعتهم، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بفضلة كسائه فغشاهم إياها، ثم أخرج يده من الكساء وألوى بها إلى السماء، ثم قال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»، قالها ثلاث مرّات. قالت أمّ سلمة: فأدخلت رأسي في الستر، فقلت: يا رسول الله، وأنا معكم؟ فقال: «إنك إلى خير» مرّتين.
وأخرجه أيضاً أحمد من حديثها قال: حدّثنا عبد الله بن نمير حدّثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رياح، حدّثني من سمع أمّ سلمة تذكر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكره. وفي إسناده مجهول وهو شيخ عطاء، وبقية رجاله ثقات.
وقد أخرجه الطبراني عنها من طريقين بنحوه.
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره لحديث أمّ سلمة طرقاً كثيرة في مسند أحمد وغيره.
وأخرج ابن مردويه والخطيب من حديث أبي سعيد الخدري نحوه.
وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} وذكر نحو حديث أمّ سلمة.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة قالت: «خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء عليّ فأدخله معه، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً}».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن واثلة بن الأسقع قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة ومعه عليّ وحسن وحسين حتى دخل، فأدنى علياً وفاطمة وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه، وأنا مستدبرهم، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} وقال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي، اللهمّ أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»، قلت: يا رسول الله، وأنا من أهلك؟ قال: «وأنت من أهلي» قال واثلة: إنه لأرجا ما أرجوه. وله طرق في مسند أحمد.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد، والترمذي وحسنه، وابن جرير وابن المنذر والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرّ بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: «الصلاة يا أهل البيت الصلاة، {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً}».
وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أذكركم الله في أهل بيتي» فقيل لزيد: ومن أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده: آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر، وآل العباس.
وأخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم الخلق قسمين، فجعلني في خيرهما قسماً، فذلك قوله: {وأصحاب اليمين} {وأصحاب الشمال} [الواقعة: 27- 41] فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل القسمين أثلاثاً، فجعلني في خيرها ثلاثاً، فذلك قوله: {فأصحاب الميمنة} {وأصحاب المشئمة} {والسابقون السابقون} [الواقعة: 8- 10] فأنا من السابقين، وأنا خير السابقين. ثم جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، وذلك قوله: {وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر. ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً، فذلك قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} فأنا، وأهل بيتي مطهرون من الذنوب».
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب عليّ وفاطمة فقال: «الصلاة الصلاة، {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً}» وفي إسناده أبو داود الأعمى، وهو وضاع كذّاب. وفي الباب أحاديث وآثار، وقد ذكرنا هاهنا ما يصلح للتمسك به دون ما لا يصلح.
وقد توسطت طائفة ثالثة بين الطائفتين، فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات ولعليّ وفاطمة والحسن والحسين، أما الزوجات فلكونهنّ المرادات في سياق هذه الآيات كما قدّمنا، ولكونهنّ الساكنات في بيوته صلى الله عليه وسلم النازلات في منازله، ويعضد ذلك ما تقدّم عن ابن عباس وغيره.
وأما دخول عليّ وفاطمة والحسن والحسين فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب، ويؤيد ذلك ما ذكرناه من الأحاديث المصرّحة بأنهم سبب النزول، فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريقين فقد أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله.
وقد رجح هذا القول جماعة من المحققين منهم القرطبي وابن كثير وغيرهما.
وقال جماعة: هم بنو هاشم، واستدلوا بما تقدم من حديث ابن عباس وبقول زيد بن أرقم المتقدّم حيث قال: ولكن آله من حرّم الصدقة بعده: آل عليّ، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، فهؤلاء ذهبوا إلى أن المراد بالبيت: بيت النسب.
قوله: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله والحكمة} أي اذكرن موضع النعمة إذ صيركنّ الله في بيوت يتلى فيها آيات الله والحكمة، أو اذكرنها وتفكرن فيها لتتعظن بمواعظ الله، أو اذكرنها للناس ليتعظوا بها ويهتدوا بهداها، أو اذكرنها بالتلاوة لها لتحفظنها ولا تتركن الاستكثار من التلاوة. قال القرطبي: قال أهل التأويل: آيات الله هي: القرآن، والحكمة: السنة.
وقال مقاتل: المراد بالآيات والحكمة: أمره، ونهيه في القرآن. وقيل: إن القرآن جامع بين كونه آيات بينات دالة على التوحيد وصدق النبوة، وبين كونه حكمة مشتملة على فنون من العلوم والشرائع {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} أي لطيفاً بأوليائه خبيراً بجميع خلقه، وجميع ما يصدر منهم من خير وشرّ وطاعة ومعصية، فهو يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس ببابه جلوس، والنبيّ صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا والنبيّ صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر، سألت النفقة آنفاً فوجأت في عنقها، فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: «هنّ حولي يسألنني النفقة»، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن نساؤه: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده، وأنزل الله الخيار، فنادى بعائشة فقال: «إني ذاكر لك أمراً ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك».
، قالت: ما هو؟ فتلا عليها: {ياأيها النبي قُل لأزواجك} الآية، قالت عائشة: أفيك أستأمر أبويّ، بل أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لنسائك ما اخترت فقال: «إن الله لن يبعثني متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها».
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت: فبدأ بي فقال: «إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك»، وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه، فقال: إن الله قال: {ياأيها النبى قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} إلى تمام الآية، فقلت له: ففي أيّ هذا أستأمر أبويّ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحا} قال: يقول: من يطع الله منكنّ وتعمل منكنّ لله ورسوله بطاعته.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} قال: يقول: لا ترخصن بالقول ولا تخضعن بالكلام.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} قال: مقارنة الرجال في القول حتى يطمع الذي في قلبه مرض.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال: نبئت أنه قيل لسودة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم: مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقرّ في بيتي فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت؛ قال: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت بجنازتها.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن سعد، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن المنذر عن مسروق قال: كانت عائشة إذا قرأت: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} بكت حتى تبلّ خمارها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب قال: كانت الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس؛ أن عمر بن الخطاب سأله، فقال: أرأيت قول الله لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} هل كانت جاهلية غير واحدة، فقال ابن عباس: ما سمعت بأولى إلا ولها آخرة، فقال له عمر: فأتني من كتاب الله ما يصدّق ذلك، فقال: إن الله يقول: {وجاهدوا فِي الله حَقَّ جهاده هُوَ اجتباكم} [الحج: 78] أوّل مرّة فقال عمر: من أمرنا أن نجاهد؟ قال: مخزوم وعبد شمس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضاً في الآية قال: تكون جاهلية أخرى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة أنها تلت هذه الآية فقالت: الجاهلية الأولى كانت على عهد إبراهيم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: الجاهلية الأولى ما بين عيسى ومحمد.
وقد قدّمنا ذكر الآثار الواردة في سبب نزول قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت}.
وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله والحكمة} قال: القرآن والسنة، يمتنّ بذلك عليهنّ.
وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة عن سهل في قوله: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ} الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيوت أزواجه النوافل بالليل والنهار.